شعاع كوني يكشف سرًا توارى آلاف السنوات داخل الهرم الأكبر
طريقة جديدة تنجح لأول مرة في مسح المباني الأثرية العملاقة. وتكشف عن تجويف بطول 30 متر داخل هرم خوفو الكبير.
نقلاً عن الطبعة العربية لـ«ساينتفك أمريكان- للعلم»:
الزمان: منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، كان الطفل الصغير مُتيمًا بالتجول داخل حديقة قصر والده الغنَاء، مستمتعًا بصحبة ابن عمه الأمير المُغرم بالبناء، الذي ظل يحدثه عن طموحه بتشييد بناء يقف على حافة الزمان.
كَبر الصغير، وتوج ملكًا على عرش مصر بعد وفاة والدة الملك «سنفرو»، والذى دفن على مرمى حجر من عاصمته «منف» داخل هرم يُعرف حتى الآن باسمه، بعد أن استقر «خوفو» على العرش، راودته أحلام ابن عمه الأمير «حم إيونو»، وفي اجتماع ضمهما معًا؛ طلب الملك تصميم بناء مهيب، يصارع السماء ويقف شاهدًا على عظمة الفرعون، فكان البناء، الذي يقف الآن شامخًا متحديًا الزمان، غير بائحِ بالأسرار.
الزمان: الألفية الثالثة بعد الميلاد، والمكان سفح مكان معروف للعالم أجمع «الهرم الأكبر» وقف الأحفاد داخل خيام مُكيفة، يمسكون مُعدات حديثة للرصد، والتصوير، بغرض عمل مسح علمي للبناء الأثري العظيم، عن طريق تقنية جديدة؛ لم تُجرب من قبل في أي مكان أثري.
اجتمع 34 عالمًا من بقاع شتى، وسَخّروا الأشعة الكونية، لتصوير الهرم بطريقة جديدة تماماً، عبر استخدام فيزياء الجسيمات، فكانت المفاجأة؛ فبعد أكثر من عامين على دراسة الهرم، اكتشف العلماء وجود فراغ كبير، لم يُكشف عنه من قبل، داخل جسم الهرم الأكبر، الذي باح بسرِ جديد مدهش، نُشر تفاصيل اكتشافه –اليوم-في ورقة جديدة بمجلة نيتشر العلمية.
تقول الدراسة إن الفراغ المكتشف حديثًا يمتد على طول 30 مترًا على الأقل في جسم الهرم، مركزه يقع على مسافة 40 إلى 50 مترًا من حجرة الأميرة الواقعة في منتصف المسافة بين الوجه الشمالي والجنوبي للهرم، فوق «بوابة المأمون» التي تُعد المدخل الرئيسي للهرم في عصرنا الحالي بنحو 10 أمتار كاملة.
غير أن الإنجاز الجديد لا يتعلق فقط باكتشاف فراغ خلف جدران الأهرامات، ولكن؛ بالطريقة التي تم اكتشاف هذا الفراغ بها، فالفريق العلمي المكون من باحثين بجامعات القاهرة، عين شمس، المصريتين، وناجويا اليابانية، علاوة على معهد فرنسي معنى بدراسة الآثار، استخدموا طريقة جديدة كُليا لإجراء مسح على الهرم الأكبر، عبر استخدام اشعة كونية معروفة باسم «الميونات»، تخترق الأجسام وتكون صور واضحة على الأفلام.
بني الهرم الأكبر على هضبة الجيزة خلال فترة حكم الفرعون «خوفو» الممتدة من 2509 إلى 2483 قبل الميلاد، اجتمعت اراء العلماء من شتى بقاع الأرض على كونه واحد من أقدم وأكبر الآثار على كوكبنا الأزرق، إلا أن التوافق ينعدم حين الحديث حول كيفية بناءه.
ولفهم أفضل لتركيبته الداخلية، قام العلماء على مر العصور باستخدام طُرق عديدة لاستكشافه، فقد وصفت البرديات القديمة طريقة الإمدادات اللوجستية وكيفية نقل الحجارة ومعدات البناء إلى منطقة عمليات الهرم، إلا أنها لم تكشف لنا قط عن الطريقة التي بُني بها هذا الصرح العظيم.
ومع التطور، وضع علماء الآثار روبوتات تتحرك بين الفراغات الصغيرة وتحمل كاميرات عالية الجودة، وقام بعضهم بإجراء المعاينات الميدانية لهيكل الهرم وتنفيذ دراسات مُقارنة بالأهرام الأخرى، فيما فضل بعضهم تطويع الأشعة دون الحمراء للكشف عن اختلاف درجات الحرارة داخل المناطق الداخلية للهرم، وقام آخرون باستخدام مقياس الجاذبية للكشف عن التغيرات الطفيفة في الجاذبية بسبب كمية المادة، إلا أن الفريق البحثي الجديد، فكر في استعمال الميونات muons وهي جسيمات أوليه دون ذرية تُشبه الالكترون، وتأتى لنا عبر الأشعة الكونية التي لا تنفك تضرب الأرض مليارات المرات في الساعة الواحدة.
يشبه أمر تصوير الهرم بالميونات بإجراء فحص دقيق للجسم عبر أجهزة الأشعة السينية، يقول أستاذ الهندسة بجامعة القاهرة «ياسر الشايب» وأحد المشاركين في الدراسة، مشيرًا –في تصريحات خاصة لـ«ساينتفك أمريكان- للعلم»- إن طريقة مسح الهرم باستخدام الأشعة الكونية تم عن طريق ثلاث طُرق مختلفة لتأكيد النتائج. مشيرًا إلى أن النتائج «كبيرة وتبشر بثورة في تقنيات مسح الأثار».
حين نريد إجراء فحصًا بالأشعة السينية للاطمئنان على الحالة الصحية للعظام على سبيل المثال، يستلقى المريض على جهاز الأشعة، يبدأ الجهاز في العمل لتخترق الأشعة السينية خلايا وأنسجة الجسم، وتُلقى بظل يتراوح ألوانه ما بين الأبيض والأسود مرورًا بالرمادي على فيلم حساس، يُظهر ذلك الظل للمتخصصين الشروخ والكسور الموجودة بالعظام أثناء مسح الهرم.. اعتبرنا السماء جهاز أشعة عملاق، يبث الميونات التي تخترق جسم الهرم، وتعطينا قراءات دقيقة عن حالته الهيكلية، تماماً كما يحدث في الجسم البشري«يقول الدكتور ياسر الشايب لـ»ساينتفك أمريكان للعلم«.
في ستينات القرن الماضي، حاول فريق بحثي أمريكي تصوير الأهرامات باستخدام الميونات، غير أن تخلف تكنولوجيات أجهزة اكتشاف الميونات في ذلك الوقت حال دون تنفيذ الأمر، حسب ما يقول وزير التعليم العالي الأسبق الدكتور هاني هلال، وأحد الباحثين في الدراسة، مشيرًا إلى أن المشروع الجديد بدأ في يوليو عام 2013، بموافقة من وزارة الآثار المصرية وكافة الجهات المعنية في محاولة لإعادة عمليات الرصد وإتمامها بنجاح.
لم تأت التجربة الأولى على هرم «خوفو» فقد فضلت وزارة الآثار التحقق من صحة الأدوات وموثوقيتها بتجربتها على هرم الأب –هرم سنفرو المائل بدهشور- وبالفعل، قام الفريق بعمل التجربة لمدة 4 شهور كاملة على ذلك الهرم.
جاءت النتائج مثيرة للإعجاب، ودقيقة إلى حد كبير، ومُطابقة تماماً للتصميم الداخلي –المعروف سلفًا-لهرم سنفرو المائل وهو الأمر الذي دفع الوزارات المعنية في مصر لبدء تجربة على الهرم الأكبر، وبالفعل؛ قام الفريق البحثي المصري-الفرنسي-الياباني المشترك بوضع المعدات داخل وخارج الهرم لإتمام عمليات المسح في أكتوبر من العام 2015.
تسقط الميونات على الكرة الأرضية يوميًا من الفضاء الخارجي، يستقبل الجسم البشري نحو 2 إلى 3 ملايين من الميونات يوميًا، ومن هنا جاءت فكرة الفريق الياباني، الذي قرر استخدام تلك الأشعة –كجهاز سمائي عملاق لبث الأشعة-للكشف عن الطبيعة الداخلية لتصميم الهرم.
وعلى غرار الأشعة السينية التي يُمكن أن تخترق الجسم وتسمح بتصوير العظام، يُمكن لهذه الجسيمات الأولية الحفاظ على مسار شبه خطي بينما تمر عبر مئات الأمتار من الحجارة المكونة للهرم.
وضع العلماء مجموعة من الأفلام داخل حجرة الملكة التي يبلغ حجمها 132 متر مكعب «5.51 متر *5.24 متر*4.572 متر»، تقع الحجرة في منتصف المسافة تقريبًا بين الوجهين الشمالي والجنوبي للهرم، وضع العلماء الأفلام المصنوعة من السيللوز والمطلية بأكاسيد الفضة والحساسة للميونات في جنوبي غرب الحجرة، سجلت انحرافات واتجاهات الميونات الساقطة عليها بدقة، ما جعلها تُميز الفراغات الموجودة داخل الحجارة التي شُيد بها هذا الصرح المُذهل.
صُنعّت تلك الأفلام في شركة يابانية شهيرة لصالح جامعة ناجويا، وجري شحنها إلى القاهرة، إلا أن هناك ثمة عقبات واجهت الأمر، فبمجرد تصنيع تلك الأفلام، تبدأ في استقبال الميونات من الفضاء، وبالتالي؛ تحتاج استخلاص المعلومات منها إلى تقنية عالية الجودة والكفاءة، لذا؛ وبحسب الدكتور ياسر الشايب، كانت الأفلام توضع لمدة تقترب من الشهرين فقط، تُشحن إلى المتحف المصري؛ حيث أعد الفريق غرفة خاصة لتحميضها، ثم ترسل النتائج إلى الجامعة اليابانية لعمل مسح لها على جهاز مُصمم خصيصًا لقراءة البيانات وعزل الميونات التي اكتسبتها الأفلام قبل وصولها إلى منطقة الاختبار أو غرفة الملكة.
لم يكتفي الفريق البحثي بالنتائج المُستقاة من وسيلة قياس واحدة، بل عمد إلى استخدام وسائل أخرى طورتها مؤسستين أحداهما يابانية KEK والأخرى فرنسية CAA. تلك الطرق لا تعتمد على الأفلام الحساسة للميونات. وضع العلماء 3 أجهزة داخل غرفة الملكة –ولا يزال موجودًا إلى الآن- علاوة على 3 أجهزة أخرى وضعت خارج الهرم. ظلت تلك الأجهزة تُسجل سقوط الميونات على ذاكرتها الرقمية.
الثلاث طُرق المستخدمة أكدت وجود الفراغ داخل الهرم الأكبر، وهي نتيجة «كبيرة» على حد قول الدكتور ياسر الشايب، الذي يقول إن الفراغ الموجود «لا يُعرف وظيفته إلى الآن ولا سبب وجوده».
تصف الدكتورة «مونيكا حنا» رئيس وحدة الآثار والتراث الحضاري بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بأسوان اكتشاف الفراغ بـ«الاكتشاف العلمي الفريد» مشيرة إلى أن المستقبل «سوف يكشف عن الكثير من المعلومات الأثرية والتاريخية باستخدام تلك التكنولوجيا».
وترى «مونيكا» في تصريحات خاصة لـ«ساينتفك أمريكان- للعلم» إن هذا الاكتشاف يُعد من أهم اكتشافات القرن الواحد والعشرين في مجال الأثار المصرية، وسوف يفتح الباب لكثير من النظريات العلمية المتعلقة بطريقة بناء الهرم وسيضيف لمعرفتنا عن العمارة والبناء في مصر القديمة بشكل كبير.
إلا أن الميزة الكبرى في ذلك الاكتشاف، هي الطريقة التي تم بها، فالتحليل باستخدام الأشعة الكونية سوف يفادي استخدام «الطرق التدميرية destructive analysis» التي تُستخدم للكشف عن طبيعة الأبنية الأثرية، على حد قول «مونيكا» والتي تشير إلى أن المستقبل سوف يطور هذه التكنولوجيات المستخدمة والتي سوف تقدر أن تحدد الفراغات المختلفة داخل الهرم بشكل أدق.
طريقة جديدة تنجح لأول مرة في مسح المباني الأثرية العملاقة. وتكشف عن تجويف بطول 30 متر داخل هرم خوفو الكبير
وتشدد عالمة الآثار «مونيكا حنا» على ضرورة استخدام علوم الفيزياء والكيمياء في أبحاث الآثار، ومنع أي محاولات للعبث بالأبنية الأثرية، وبخاصة الهرم «ستقطع التكنولوجيات الجديدة الطريق على العبث بالأهرامات، كالثقوب التي تم تنفيذها عام 2003 باستخدام روبوت داخل حجرة الملكة».
على ارتفاع 10 أمتار من بوابة المأمون التي يستخدمها الزوار الآن لدخول الهرم، تقع البوابة الرئيسية التي لطالما عبرها الأجداد إلى داخل البناء المُعجزة، خلف تلك البوابة المغلقة حاليًا، يقع التجويف، وقد قام الفريق العلمي بعرض نتائج الدراسة على الجهات المصرية العلمية.
لكن؛ وإلى الآن، لا يوجد ثمة تفسير لذلك الفراغ الكبير «وهذا ليس دورنا بطبيعة الحال» يقول الدكتور ياسر الشايب، فالهدف الرئيسي من الدراسة هو استخدام التكنولوجيا الحديثة لاستكشاف التكوين الداخلي للأهرامات «أما تفسيره فيقع على عاتق الأثريين».
«أتمننا المرحلة الأولى وأكدنا وجود الفراغ» يقول الدكتور هاني هلال، مشيرًا إلى الخطوة القادمة هي تأكيد حجم ذلك الفراغ «إلى الآن لا نعرف حجمه على مستوي الدقة، ولا حتى اتجاهاته، إذ لا نعرف حتى إذا ما كان الفراغ أفقي أم مائل». لتحقيق ذلك؛ وافقت وزارة الآثار المصرية على مد المشروع سنة أخرى، على حد قول هلال، الذي يشير إلى أن الخطوة الأخيرة ستكون فتح النقاش بين الأثريين والمعماريين. لمعرفة سبب وجود ذلك الفراغ في جسم البناء الضخم الذي لطالما ألهب خيال العلماء والعامة على السواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق